مدارس "عزل ذوي الإعاقة" في أستراليا.. استثمار في التمييز أم انتكاسة لحق التعليم؟
مدارس "عزل ذوي الإعاقة" في أستراليا.. استثمار في التمييز أم انتكاسة لحق التعليم؟
في قلب ولاية كوينزلاند الأسترالية، تتجدد اليوم أزمة قديمة بوجه جديد: أزمة التمييز ضد ذوي الإعاقة في التعليم؛ إذ أعلنت حكومة الولاية مؤخرًا، ضمن ميزانيتها للعام الجاري، تمويل بناء ست مدارس جديدة منفصلة -أو ما يُطلق عليها رسميًا مدارس خاصة- في جنوب شرق الولاية، مخصصة للطلاب ذوي الإعاقة.
ورغم أن هذه الخطوة جاءت تحت عنوان تحسين جودة التعليم وتقديم رعاية متخصصة، فإنها سرعان ما قوبلت بانتقادات حادة من مؤسسات حقوقية محلية وأممية، واعتُبرت تراجعًا خطيرًا عن الالتزام الوطني والدولي بمبدأ التعليم الشامل.
رسالة قلق وتحذير
المفوضة الفيدرالية للتمييز ضد ذوي الإعاقة، روزماري كايس، لم تكتفِ بالتصريحات الإعلامية، بل بعثت برسالة رسمية مباشرة إلى رئيس وزراء كوينزلاند ووزير التعليم، أعربت فيها عن قلقها العميق إزاء هذه الخطة.
تقول كايس بلهجة لا تخلو من الغضب: "الاستثمار في بناء مدارس جديدة منفصلة يتعارض بشكل مباشر مع التزام حكومة كوينزلاند بالتعليم الشامل، ومبادئ خارطة الطريق الوطنية، وأيضًا مع توصيات اللجنة الملكية المعنية بالإعاقة".
وأكدت أن كل الأدلة والدراسات تشير إلى أن التعليم الشامل يؤدي إلى نتائج أكاديمية واجتماعية أفضل للطلاب ذوي الإعاقة، في حين أن التعليم المنفصل يعيد إنتاج التمييز ويزيد من احتمالات تعرض هؤلاء الطلاب للعنف والإهمال والاستغلال.
خارطة طريق وطنية
في عام 2022، تبنت الحكومة الأسترالية مع حكومات الولايات والأقاليم خارطة طريق وطنية للتعليم الشامل، تؤكد على حق جميع الطلاب، بمن فيهم ذوو الإعاقة، في الالتحاق بالمدارس العامة، وتلزم الحكومات بتوفير الدعم المناسب داخل هذه المدارس بدلًا من فصلهم في مؤسسات خاصة.
خارطة الطريق شددت على أن التعليم الشامل ليس مجرد سياسة تربوية، بل التزام قانوني وأخلاقي بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي صدّقت عليها أستراليا في عام 2008.
لكن قرار كوينزلاند الأخير، بحسب كايس، يمثل تراجعًا فعليًا عن هذه الالتزامات، ويبعث برسالة سلبية مفادها أن ذوي الإعاقة لا ينتمون للفصول العامة.
ذاكرة العزل
لفهم عمق الأزمة، لا بد من العودة إلى عقود مضت حين تبنّت أستراليا سياسة التعليم المنفصل رسميًا، حيث كانت تُنشأ مدارس وفصول خاصة لذوي الإعاقة تحت مبررات الاحتياجات المختلفة.
ورغم التحولات التي بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، فإن إرث العزل ظل حاضرًا في السياسات والممارسات التعليمية. ويشير باحثون إلى أن بقاء المدارس الخاصة حتى اليوم يعكس بطئًا مؤسسيًا في تبني الدمج الشامل منهجاً وليس شعاراً.
الأرقام تكشف الواقع
وفقًا لتقرير اللجنة الملكية المعنية بالإعاقة عام 2023:
نحو 40% من الطلاب ذوي الإعاقة في أستراليا ما زالوا يدرسون في بيئات منفصلة كليًا أو جزئيًا.
الطلاب ذوو الإعاقة أكثر عرضة بمرتين للتسرب المبكر من التعليم مقارنةً بأقرانهم.
يتعرض هؤلاء الطلاب لمعدلات أكبر من التنمر (بنسبة تصل إلى 60%) والعنف الجسدي واللفظي في المؤسسات التعليمية.
وفي كوينزلاند وحدها، يُقدَّر عدد الطلاب الملتحقين بمدارس خاصة أو فصول منفصلة بنحو أكثر من 20 ألف طالب، ما يعكس استمرار النموذج القديم رغم الالتزامات الوطنية.
توصيات واضحة وصارمة
اللجنة الملكية أوصت بوقف إنشاء أي مدارس منفصلة جديدة، ووضع خطة زمنية لإنهاء التعليم المنفصل تدريجيًا، معتبرة أن الدمج في التعليم حق أساسي وليس خدمة تقدمها الدولة.
وجاء في تقرير اللجنة: "التعليم الشامل لا يحقق العدالة الاجتماعية فقط، بل يقلل من العنف، ويدعم الصحة النفسية، ويعزز فرص العمل والاندماج لاحقًا في المجتمع".
وبحسب اللجنة، فإن الموارد المالية التي تُنفق على إنشاء مدارس منفصلة يمكن توجيهها لتدريب المعلمين، وتطوير البنى التحتية في المدارس العامة، بما يضمن بيئة مرحبة وداعمة للجميع.
أين تكمن الأزمة؟
قرار حكومة كوينزلاند الأخير يعكس، بحسب خبراء، فجوة عميقة بين الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن الشمول والمساواة، وبين السياسات الواقعية التي تُبقي التمييز قائمًا وإن كان بصور لطيفة.
تقول كايس: "بدلاً من تبني مستقبل أكثر إشراقًا للجميع، تُحبس حكومة كوينزلاند في نموذج فاشل يعاقب الأشخاص ذوي الإعاقة ويعزلهم عن المجتمع".
مواقف حقوقية وأممية
في سياق المطالب الملحّة بإلغاء خطط بناء مدارس منفصلة جديدة في كوينزلاند، تستند الدعوات الحقوقية إلى مرجعية قانونية وأخلاقية راسخة يمثلها الإطار الدولي المتمثل في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (CRPD) التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 2006.
ونصّت المادة 24 من الاتفاقية بوضوح على حق الأشخاص ذوي الإعاقة في التعليم دون تمييز وعلى أساس تكافؤ الفرص، وألزمت الدول الأطراف بإقامة نظام تعليمي شامل على جميع المستويات، وتقديم الدعم الفردي المناسب ضمن المدارس العامة، لضمان تنمية القدرات الأكاديمية والاجتماعية لكل طالب إلى أقصى حد ممكن.
وشددت لجنة حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في تعليقها العام رقم 4 (2016) على أن التعليم الشامل حقٌ فوري وملزم وليس مجرّد هدف مستقبلي، وأن إنشاء مدارس منفصلة أو مسارات خاصة يُعد شكلًا من التمييز الممنهج ضد الأشخاص ذوي الإعاقة.
هيومن رايتس ووتش، في تقريرها لعام 2023، أكدت أن التعليم المنفصل يزيد من الوصمة المجتمعية ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، ودعت الحكومة الأسترالية لتطبيق توصيات اللجنة الملكية دون تأخير.
هذا الموقف يتقاطع مع أصوات بارزة في المجتمع المدني؛ إذ اعتبرت منظمة Inclusion Australia أن التعليم المنفصل ينتهك روح ومبادئ الاتفاقية الدولية، مؤكدة أن الحل يكمن في الاستثمار في تأهيل المعلمين وتطوير البنية التحتية للمدارس العامة لتصبح بيئات مرحّبة وشاملة، بدلًا من توجيه الميزانيات لبناء مدارس معزولة.
وترى شبكة AEDI الأسترالية أن التعليم الشامل يعيد تعريف الفصول الدراسية لتصبح مرآةً حقيقية لتنوّع المجتمع، ما يُسهم في بناء مجتمعات أكثر عدلًا وتسامحًا، وفي السياق ذاته، يُجمع حقوقيون محليون ودوليون على وصف التعليم المنفصل بأنه شكل حديث للتمييز المؤسسي، محذرين من أنه يحرم الأشخاص ذوي الإعاقة من المشاركة الكاملة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ويفوّت عليهم فرص تنمية إمكاناتهم الكاملة كبقية أفراد المجتمع.
آثار العزل على المجتمع والأفراد
الدراسات التربوية والنفسية تشير إلى أن التعليم المنفصل لا يضر فقط الطلاب ذوي الإعاقة، بل المجتمع كله، حيث يعزز ثقافة الخوف من الاختلاف ويضعف روح التضامن.
كما يُنتج جيلًا من الطلاب غير المعتادين على التنوع، وهو ما ينعكس لاحقًا على سوق العمل والمجتمع.
عدد من أسر الطلاب ذوي الإعاقة عبّروا عن رغبتهم في مدارس عامة مزودة بالدعم والتأهيل اللازم، بدلًا من نقل أبنائهم إلى مدارس منفصلة قد تكون بعيدة عن المنزل وتزيد من عزلة الطفل.
وتشير جمعيات محلية إلى أن كثيرًا من الطلاب ذوي الإعاقة الذين تلقوا تعليمًا شاملًا حققوا نتائج أكاديمية ومهنية مميزة، بينما عانى نظراؤهم في التعليم المنفصل من صعوبات أكبر في الاندماج لاحقًا.
تجارب مثل فنلندا وكندا أثبتت أن الدمج الشامل ممكن وناجح، شريطة الاستثمار في تدريب الكوادر التعليمية، تطوير المناهج الشاملة، وتعديل تصميم المدارس لتكون أكثر مرونة.
هذه الدول لم تلجأ إلى بناء مدارس منفصلة جديدة، بل طورت المدارس العامة لتحتضن الجميع، فيما تقف كوينزلاند اليوم أمام خيار حاسم إما المضي في خطة بناء مدارس منفصلة جديدة، أو الاستثمار في تطوير المدارس العامة لتحقيق الدمج الفعلي.